التقرير السياسي للمؤتمر العام العاشر للمنبر التقدمي – البحرين
في الشأن الدولي والإقليمي:
توالت في عالمنا خلال العقدين الأخيرين، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وبتسارع، أحداث كبار أصبحت تُغير توازنات واتجاهات هذا العالم. فمنذ أزمة 2008 – 2009 توقفت الآلة وانتهى عصر النمو بعد قرنين ونصف من الوجود. أصبح النمو الاقتصادي العالمي يعتمد بشكل كبير على نمو الديون، وبكلمات أخرى الاقتراض على حساب المستقبل. وقد فشل الديمقراطيون في الولايات المتحدة في تحقيق شعاراتهم “التقدمية” في الدفاع عن مصالح الفئات الدنيا، لكن فشلهم القاتل كان بارتقاء الأزمة إلى أزمة أخلاقية بترويجهم لقيم المثلية الجنسية والتحول الجنسي وفصم الأطفال عن وصاية الأسرة والإجهاض.. وأصبح واضحاً أن الحياة لم تعد بعد الأزمة، ولن تعود أبداً، إلى ما كانت عليه قبلها. وهذا ما أدركته النخبة العالمية تدريجياً.
جاءت أزمة كوفيد – 19 لتعمق أزمة الرأسمالية العالمية، حيث تباطؤ الأعمال وتقطع سلاسل الإمداد واللجوء إلى سياسات التسهيل المالي. ولم تؤدِ برامج التعافي الاقتصادي إلا لمزيد من تفاقم الأوضاع. وفي حين وضعت بلدان المركز والأطراف الرأسمالي هدفها الاقتصاد أولاً، وفشلت في تحقيقه، نجح النظام الإشتراكي في الصين الشعبية في إنقاذ المجتمع والاقتصاد معاً.
وأدى استفزاز الغرب بزحف حلف شمال الأطلسي لتطويق روسيا بالصواريخ النووية ومختبرات الأسلحة الجرثومية إلى استعار حرب مدمرة في أوكرانيا رافقها أكبر حصار اقتصادي ضد روسيا. بينما اعتبرت روسيا ذلك تحدٍ وجودي نجحت في مواجهته. وأصبح المطلب العادل لشعوب العالم بوقف هذه الحرب الدموية اليوم بحكم الواقع الميداني وبحكم التغييرات السياسية الأمريكية أكثر قابلية للتحقيق. ويشي وضع الأشياء بأن لقاء القمة الروسية الأمريكية المزمع في العاصمة السعودية الرياض قد يذهب إلى أبعد من أوكرانيا، وربما إلى “يالطا جديدة”.
أما دول أوروبا، التي انقادت إلى هذه الحرب على غير هدىً فقد ولجت في أزمة طاقة جعلت “يوم القيامة الصناعي” يلوح في أفق ألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي، بعد تراجع إنتاجها. ومع تعمق الأزمة المالية والاقتصادية دخلت أوروبا في برامج تسلح ذاتي وتسليح لأوكرانيا وإنفاق عسكري أدى إلى استنزاف موارد هذه البلدان على حساب تراجع البرامج الاجتماعية وتردي الحالة المعيشية لسكانها. ضاعف من هذا الإجهاد انضمام الدول الأورروبية إلى الولايات المتحدة في إستمرار شحنات الأسلحة الضخمة لإسرائيل دعماً لعدوانها الوحشي على غزة ولبنان والذي ساهم مباشرة في أعمال الإبادة الجماعية، وكذلك العدوان على اليمن وإيران. وعندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية أو الشؤون العسكرية أو استقلال الطاقة، تبدو أوروبا أكثر فأكثر بلا دفة في عالم عاصف، ليتخلخل الاستقرار الاجتماعي والسياسي الداخلي فيها.
انكشفت معظم القيادات السياسية الأوربية ليس حتى كتابع شريك، بل تابع ذيلي للإمبريالية الأمريكية، وعاجزة عن معالجة الأزمات التي تسببت هي في إحداثها. وغير مرجح الآن أن يتمكن الزعماء السياسيون الجدد أو المعاد انتخابهم من عكس الاتجاهات الأساسية للاقتصاد العالمي: تباطؤ التجارة الدولية، تراجع قيمة الدولار، زيادة الإنفاق العسكري، تزايد التفاوت الاقتصادي، مواجهة تحدي الدور المتزايد للذكاء الاصطناعي ومراجعة مبادئ التحول في مجال الطاقة. ضف على ذلك أن المسار الذي أعلنه ترامب نحو الإقليمية والحمائية قد يكون له “عواقب مروعة” تصل إلى التوقف الكامل للنمو الاقتصادي العالمي. كما ستؤدي إلى ضعف التعاون الدولي من أجل الأهداف الإنسانية العامة بعد الاستهداف الأمريكي لكل من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) ومحكمتي العدل والجنايات الدوليتين. ومع دخول إدارة ترامب الجديدة ولاية ثانية، ترى الأمم المتحدة بأن البيت الأبيض صار معادياً لها بشكل استثنائي.
مشكلة العالم الرئيسية الآن، وعسى أن تكون مؤقنة، هي أن التراجع التاريخي المحدد سلفاً للغرب الجماعي باعتباره المهندس والباني والضامن الرئيسي لحرمة النظام العالمي الحديث يتزايد بسرعةٍ تفوق بكثير سرعة نضوج استعداد مراكز القوة الجديدة لتحمُّل المسؤولية الرئيسية عن مستقبل النظام العالمي. وهذا ما سيؤدي على الأغلب إلى عدم الاستقرار، وعدم القدرة على التنبؤ، وإمكانية حدوث كل أنواع الاضطرابات في المدى المنظور. وهنا تستدعي تطورات الأشهر الماضية اقتباس أنطونيو غرامشي، “إن العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يكافح من أجل الولادة: والآن هو وقت الوحوش”.
ففي حين يُفترض أن يتجلى التناقض بين العمل ورأس المال صراعاً بين قوى اليسار والأنظمة الحاكمة في أوروبا، إلا أنه يبدو الآن مشوهاً وكأنه يتجلى في الصراع بين “يسار” البرجوازية ويمينها المتطرف!! لقد أحدثت فترة الهيمنة الطويلة لليبرالية الجديدة منذ ثمانينات القرن الماضي أثرها الكبير في تشويه قسم كبير من اليسار العالمي الذي أصبح “يساراً” متجولاً بين القومية والليبرالية وانشغل بالدعوة لنماذج التنمية الليبرالية وقيمها الأخلاقية المنحطة. وبدا وكأن اليمين القومي – الفاشي المتطرف، والشعبوي في آن، هو البديل الأكثر جاهزية للتصدي لآثار أزمة الليبرالية الجديدة، التي تَدَّعي اليسارية، وحتى التقدمية!! بل وأن دونالد ترامب، أثناء حملته الانتخابية، نعت الحزب الديمقراطي بالشيوعية!!.
لذلك يتميز عصرنا مرة أخرى بصعود القوى السياسية اليمينية المتطرفة والفاشية: من دول البلطيق إلى الولايات المتحدة ومن ألمانيا إلى أوكرانيا، تنمو بيضة الثعبان من جديد، وتتخذ أشكالًا مختلفة.
والحقيقة أن الإدارة الأمريكية الجديدة تضع الرياح في أشرعة اليمين الشعبوي الأوروبي. كما أنه بتسليم ترامب دفة الأمور لممثلي الشركات الاحتكارية، وخصوصا التكنولوجية، تصبح هذه الإدارة تجسيدا لما يمكن تسميته “دكتاتورية رأس المال”. ومع توجه الإمبريالية الأمريكية نحو إعادة اقتسام النفوذ والأسواق بدءاً عن طريق الحروب الاقتصادية، يُدفع بقوى اليمين المتطرف إلى الواجهة السياسية في مختلف أنحاء العالم من أجل إدارة وحماية مصالح رأس المال الاحتكاري.
ويجب أن نفهم عملية الترويج الجارية للجماعات الفاشية أو القومية المتطرفة أو العنصرية، ليس على أنها “مؤامرة”، ضد القيم الديمقراطية الحديثة، بل هي مظهر من مظاهر ما أسماه بريشت “أشد أشكال الرأسمالية فظاعة ووقاحة وقمعاً”.
هل سيجثم المد اليميني المتطرف بثقله على المنطقة العربية أيضاً؟ هذا يستدعي الإجابة على سؤال آخر، متمم – ما علاقة اليمين الصهيوني الديني المتطرف بالحركات اليمينية المتطرفة في الغرب وبقية العالم؟ وقد يبدو السؤال غريباً، لأن معظم مؤسسي الأحزاب الأخيرة ينسلون من الفاشية التي طالما نكَّلت باليهود تاريخياً. فمؤسس حزب الحرية الذي فاز مؤخراً في النمسا هو قائد عسكري نازي سابق، ومؤسس الحركة الاجتماعية الإيطالية (سليلة “إخوان إيطاليا”) كان ناشطاً في الحزب الفاشي وضابطاً في “الفرق السوداء”. وقس على ذلك في هنغاريا “فيديس” وأسبانيا “فوكس” وغيرهما. ومع ذلك فهذه الحركات اليوم هي حليف الصهيونية المسيحية واليمين الإسرائيلي الحاكم، وتواجه بشراسة الرأي العام العالمي المحتج على العدوان الإسرائيلي وتبيض جرائمه وتدعو إلى مزيد من تسليح الكيان الصهيوني وإقصاء المسؤولين الدوليين غير المؤيدين له من مناصبهم، وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحد أنتونيو غوتيريش.
سيغدو الأمر واضحاً إذا تذكرنا أن أساس الفاشية ليس معاداة السامية، بقدر ما هو الدفاع عن مصالح رأس المال عن طريق المضاربة بالشوفينية القومية “النقاء العرقي” و”القيم التقليدية”. وفي هذا نجد المعسكر اليميني المتطرف والكيان الصهيوني “توأمان” بالمعنى الأيديولوجي. كلاهما يصرفان انتباه العالم عن أزمة الرأسمالية الوجودية إلى “الأعداء المسلمين”، كما تجمعهم سمة معاداة الشيوعية.
وفي الوقت الراهن تكتسب وحدة الكيان الصهيوني واليمين المتطرف في الغرب والعالم صفة التحالف الفعلي. فبينما تقف حكومة بيدرو سانتشيز الأسبانية موقفا مشرفاً من القضية الفلسطينية وأهل غزة، تبرم حركة “فوكس” الأسبانية اتفاق تعاون مع حزب نتنياهو “الليكود”. كما نشهد تطور علاقات حكومة نتنياهو بالقوى الرجعية في أمريكا اللاتينية. ولعلنا نتذكر بأن رئيس الأرجنتين خافير ميلي، الذي قاد بلاده إلى انهيار اقتصادي اجتماعي خلال عام واحد من حكمه، أصبح عراب اليمين المتطرف في أمريكا اللاتينية والعالم، مدعوماً بأموال ألان ماسك، كانت أول زيارة له بعد فوزه إلى إسرائيل. هذا وغيره يعني أن صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في بقية البلدان، خصوصاً بعد فوز الرئيس ترامب، سيشدد من الهجمة الإمبريالية – الصهيونية ليس ضد الشعب الفلسطيني الشقيق وقضيته العادلة فقط، بل وضد طموحات بلداننا العربية في الاستقلال والتقدم والتموضع الملائم في عالم التعددية القطبية الجديد.
غير أن أحزاب وقوى الحركة الشيوعية والعمالية في قارات العالم الست، ومعها قوى التقدم والحرية والسلام في العالم، بما في ذلك في داخل أراضي فلسطين 1948 تشعل بلا هوادة حركات احتجاجية ضد العدوان الصهيوني على غزة والضفة الغربية والقدس ولبنان وسوريا وتهديداته ضد الأردن ومصر وأخيراً المملكة العربية السعودية بتهجير أهل غزة إليها. كما تتصدى لليمين المتطرف داخل بلدانها. وقد لعبت جمهورية جنوب أفريقيا دوراً متميزاً في تعرية الكيان الصهيوني وجرائمه عبر محكمة العدل الدولية، حيث انضمت إليها دول أخرى تباعاً لتواجه إسرائيل أشد إدانة بعد إدانة النازية. وكذلك محكمة الجنايات الدولية التي أدانت وأمرت باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه غالانت.
كانت عضلات نتنياهو “قوية” لأن عضلات بايدن مرتخية، واستخدمها ليس من أجل الإبادة في غزة ولبنان والضفة الغربية فحسب، بل ومن أجل المساعدة على عودة ترامب رئيساً. والآن يبدو الإثنان، من الناحية السياسية والأخلاقية، توأمًا لأُمَّين مختلفتين. ومع ترامب يبدو نتنياهو أكثر “ثقة” وتصميماً على المضي في الحرب كمَهْرَب لحكومته من الانهيار وله شخصياً من قضاء باقي حياته في السجن بسبب الفساد والمغامرات العسكرية والأمنية. لذا نجده أكثر تصميماً على إنهاء المهمة التي تركها بن غوريون غير مكتملة في عام 1948 بإخلاء غزة والضفة من أهلهما، وبسط الدولة اليهودية على ما يسمونه “أرض إسرائيل التوراتية”. ومع ذلك، فإن مشهد عودة قرابة مليون فلسطيني إلى شمال غزة كان أشبه بتمرين عام على ممارسة حق العودة إلى فلسطين وبمثابة إعادة ضبط لما سمي بالإنجازات التكتيكية أو الاستراتيجية الإسرائيلية!.
لذا يؤكد زامير، رئيس هيئة أركان جيش العدو أن “عام 2025 سيظل عاماً للقتال”. وهذا يشير إلى أن إسرائيل ستستأنف حروبها، على الرغم من اتفاقيات وقف إطلاق النار التي وقعتها مع الحكومة اللبنانية في نوفمبر 2024 والمقاومة الفلسطينية في يناير 2025. ومع شهية لا تشبع للحرب، يصعب تخيل أن يستطيع الكيان باقتصاد منهار ومجتمع خائر القوى بكل المعاني وقيادات فاسدة مغامرة وتراجع في إمكانيات الحلفاء تحقيق ما عجز عنه على مدى 14 شهراً في لبنان وأكثر من 15 شهراً في غزة. فبغض النظر عن الدمار الهائل والخسائر الكبيرة في أرواح النساء والأطفال والرجال المدنيين والعسكريين، إلا أن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، وبدعم قوي من حلفائهما، خرجتا منتصرتين بالمعنى الحقيقي للكلمة، من حيث منع العدو من تحقيق أهدافه الحقيقية في كلا البلدين، ومن حيث التفوق الأخلاقي في تجنب استهداف المدنيين وفي التعامل مع الأسرى والحفاظ على صحتهم الجسدية والنفسية، أو من حيث الخروج من الحرب بمعنويات عالية وثقة بالمستقبل، تماماً بعكس الكيان الصهيوني. وقد دلل هذا الكيان على عنصريته حتى تجاه الوافدين إليه، حين قررت حكومة نتنياهو أن ضحايا أحداث 7 أكتوبر غير الإسرائيليين غير مؤهلين للحصول على مساعدات من الدولة.
وبسبب اختلال توازن الكيان الصهيوني تعود مقاليد الأمور مجدداً إلى الولايات المتحدة. لكن الإدارة الحالية تعود بعقليتها الصفقاتية التجارية، حيث يتم تصوير التطهير العرقي علناً وكأنه عرض عقاري لتحويل القطاع إلى ريفيرا الشرق الأوسط، بقصور ساحلية وكازينوهات للنخبة الدولية. وفي حين يقول الأمريكيون أنهم لن يدفعوا تكاليف إعادة الإعمار، فإنما يقومون بأكبر عملية احتيال عقارية نموذجية، حيث يريدون الاستيلاء على ما ليس لهم دون مقابل! وإذا كانت إحدى عيني ترامب على العقار فالأخرى على مكامن الوفود الأحفوري التي تزخر بها هذه المنطقة وطرق نقله.
وربما يعرف ترامب أن مقترحه بشأن غزة غير قابل للتحقيق، حتى من حيث المرامي الإسرائيلية التي تريد “التهجير مقابل الاستيطان”. وقد يكون الغرض منها هو الترويج لفكرة التهجير التي تنفذ الآن فعلياً في الضفة الغربية، يعقبها الاستيطان بكل وحشية، حيث أن الحملة الأخيرة الأشد على الضفة بدأت قي 21 يناير، بعد يومين على وقف إطلاق النار الأخير.
هذه الحماقات لم تستفز كل العالم الذي أدانها وشدد من جديد من التضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في العودة وتقرير المصير وبناء دولته الوطنية المستقلة على أرضه، بل واستنفرت أكبر بلدين عربيين – المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية لاستعادة دورهما التاريخي في قيادة العالم العربي الرسمي لنصرة قضية العرب الأولى – فلسطين. كما حفز ذلك الأردن بقوة تحت تهديدات الخطر الوجودي لهذا البلد.
لقد قدمت القوى التقدمية والوطنية، ومن بينها منبرنا التقدمي، ومنظمات المجتمع المدني في بلادنا جل ما تستطيع من دعم مادي وسياسي ومعنوي لإدانة ومقاومة العدو الصهيوني ضمن الأطر المتاحة من مسيرات وندوات ومهرجانات ومواقف سياسية وتبرعات، ولا شك أنها ستواصل، وبالتكافل مع كل قوى التقدم والسلام في بلداننا العربية والعالم، النضال من أجل ألا تمر المشاريع الإمبريالية الصهيونية في المنطقة، وحتى انتصار قضيتنا المشتركة.
على أن الشرط الحاسم لانتصار قضية الشعب الفلسطيني هو وحدة قواه الوطنية. يردد نتنياهو بصلافة “لا حماس، لا عباس”، لأن ائتلاف حكمه يهدف إلى تهجير الفلسطينيين وإحلال الاستيطان في غزة والضفة على السواء.
كافة هذه الممارسات تمت بتجاهل دولي، و في كثير من الأحيان بدعم مباشر من دول المركز الرأسمالي. تؤكد هذه الممارسات مجدداً على غاية ابقاء المنطقة في حالة من الغليان الدائم، بغية ابتزاز الأنظمة السياسية وهي أنظمة تفتقد إلى دعم الشعوب التي تحكمها، لذلك فهي تجد في الغطاء للدول الرأسمالية ملاذ الحماية لإبقاء السيطرة السياسية والهيمنة على شعوبها.
أدت هذه السياسة إلى تقليص دور إيران، لاسيما بعد شل أذرعها المؤثرة في الإقليم، تمكنت بعدها من السيطرة المطلقة علي سوريا بعد السقوط المفاجئ لحكومة بشار الأسد، ومن ثم تجريدها من خصائصها كدولة ذات سيادة وفي طليعتها تدمير البنية العسكرية ونهب السلاح، بما فيها الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والسفن وناقلات الجند، والأسلحة النوعية وتدمير مراكز البحوث والتعليم والتصنيع، عدى عن احتلال مناطق شاسعة من سوريا، سوف يُبقي هذا الوضع سوريا لزمن طويل في حالة الانكفاء والقبول بواقع جديد، محوره الاعتراف بإسرائيل ووقف الدعم للمقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى عكس دورها الإقليمي من دولة مواجهة إلى دولة منساقة طوعاً إلى المشروع المسمى بالشرق الأوسط الجديد.
إن تأثير المد اليميني العالمي المتطرف على عالمنا العربي لم ولن يتوقف – إذا لن يتم إيقافه – على ما شهدناه في غزة ولبنان فقط. والحدث السوري شاهد ساطع على ذلك. فقد وصل اليمين الديني الرجعي المتطرف إلى الحكم في بلد عُرف بمواقفه المناهضة للإمبريالية والداعمة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكن الإنهيار السريع لنظام الحكم السابق يثبت، كما أثبت في العراق وكذلك ليبيا قبلاً، أن معاداة الإمبريالية والصهيونية لا يشفع للأنظمة تعطيلها للديمقراطية الاجتماعية والسياسية والقمع وحماية الفساد في الداخل. وبالتجربة المؤلمة ثبت أن هذين الاتجاهين المتضادين أديا حتماً إلى انهيار عدد من الدول القومية. فطوال عقود من الزمن كان فيها النظام السوري قبل سقوطه نموذجاً للأنظمة العربية التي تفتقد إلى العقد الاجتماعي، تدير السلطة بالقرارات المنفردة أو في محيط ضيق يضمن بلوغ النظام تحقيق سياسته دون معوقات، هذا الواقع يبقي هذه الأنظمة معلقة على دعم ومباركة سياسية من مراكز السيطرة الرأسمالية. وأي تصادم للمصالح مع القوى الامبريالية، يمكنها معه رفع غطاء الحماية وهو ما يجعلها في تلك الحالة غير مستقرة و قابلة للسقوط في أية مواجهة مع شعوبها.
أما ما يجري في السودان الجريح فيثبت الوجه الآخر للمشكلة: أن اليمين المتطرف إذا ما تمكن من الحكم واستفرد به فإنه يقود بلاده، بما في ذلك هو نفسه، إلى الفوضى والاقتتال. لكن ثمن ذلك باهظ على الشعب السوداني الشقيق الذي تكالبت عليه أطماع القوى الإمبريالية من الخارج والرجعية في الداخل لنهب الثروات الهائلة التي يزخر بها باطن وسطح هذا البلد العظيم. وإذا كانت السعودية ومصر قد استنفرتا ضد تهجير أهالي غزة واستعادة دورهما التاريخي في قيادة المسار العربي، فإنهما قادرتان أيضاً على وقف انتشار الفوضى باستكمال هذا الدور فيما يتعلق بالضفة الغربية والسودان وليبيا وكل بؤر التوتر في منطقتنا.
لقد أصبح النضال ضد الإمبريالية والصهيونية ومن أجل نصرة القضية الفلسطينية مرتبط عضوياً، وجزءاً لا يتجزأ من النضال الطبقي العالمي ضد زحف اليمين الرجعي المتطرف وتكريس إدارة جديدة للرأسمالية، أكثر رجعية ووحشية في داخل كل بلد وعلى مستوى العالم.
كل تلك الصورة القاتمة لا تطمس الوجه الآخر، المضيئ لعالمنا. في الأسابيع الماضية فقط أذهلت الصين العالم بظهور برنامج Deepseek في عالم الذكاء الإصطناعي بكلفة نفقات كهرباء أقل بكثير مما تستهلكه نظيراته الأمريكيات. وبينما كان الرئيس ترامب وغيره من زعماء الغرب يركزون على الكشف عن خطوات لتعزيز صناعات الذكاء الاصطناعي المحلية من خلال مساعدتها على النمو أو فرض القيود على المنافسين الصينيين، وضعت ديب سيك حدوداً لهذا النهج. ما يمر دون إدراك في كثير من الأحيان هو كيف حشدت الصين هذا التقدم: من خلال الاستثمار بمئات المليارات من الدولارات المدعومة من الدولة، منذ مراحل مبكرة. استعرضت الصين الشعبية بهذا الإنجاز العظيم جانباً من أفضليات النظام الإشتراكي.
الدورة الثالثة للجنة المركزية بعد المؤتمر 20 للحزب الشيوعي الصيني التي انعقدت بين 15 و18 يوليو 2024 شكلت علامة بارزة في انطلاقة الصين للمرحلة القادمة. أكدت الدورة على أنه من أجل تعزيز تعميق الإصلاح على نحو شامل، يجب التمسك بالماركسية اللينينية وتطبيق أفكار شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد بشكل شامل، وأنه سيتم في عام 2035 إنجاز بناء نظام اقتصاد سوق اشتراكي رفيع المستوى بشكل شامل، وذلك سيضع أساساً متيناً لإنجاز بناء دولة اشتراكية حديثة قوية على نحو شامل عند حلول منتصف القرن الحالي. واقترحت الدورة جعل حماية وتحسين ظروف معيشة السكان في عملية التنمية المهمة الأساسية للتحديث في الصين.
أتاح نجاح الصين لبلدان أكثر من الجنوب العالمي فهم أن البحث النشط عن طريق التطور الملائم لظروفهم الوطنية، يعتبر الطريقة الوحيدة لتحقيق الاستقلال والإزدهار والاستقرار. أي أن الصين، حين تقدم نموذجها للعالم لبناء الاشتراكية، ترى أيضاً إمكانية نماذج أخرى وفقاً لخصائص كل بلد. وفي نفس الوقت إذ تشكل الصين دافعاً بقوة المثل، فإن استعداداها وإمكانيانها الهائلة للتعاون العملي تتيح لدول العالم الدفع بالتنمية والتقدم الاجتماعي.
وقد يثار الجدل حول النموذج الصيني للاشتراكية، لكن ما لا شك فيه أن تَقدُّم الصين المضطرد في ظروف تراجع الرأسمالية العالمية المسدودة الأفق يبين بالتجربة الساطعة أن الاشتراكية والشيوعية هي البديل التاريخي، الواقعي والحتمي للرأسمالية.
وتقود الصين، إلى جانب الهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا مسيرة مجموعة بريكس كأكبر تجمع للتعاون الاقتصادي والسياسي والأمني الاستراتيجي، وتهيئ القاعدة لإعادة بناء العالم نحو التعددية القطبية. كما تقود نمطاً جديداً من دعم التنمية الدولية بواسطة بنك التنمية التابع للمجموعة بسياسات أكثر نزاهة وجدوى من سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين. ذلك رغم التباينات بين بلدان بريكس من حيث طبيعة أنظمتها الاقتصادية الاجتماعية وتنازع مصالحها الإقليمية، كما بين الصين والهند، ودرجة علاقاتها مع مراكز القوى في الرأسمالية العالمية.
إن من شأن تفكك عالم القطب الواحد إلى مناطق كبرى أن يقلل من قوة الاحتكارات العالمية – على الأقل من خلال تضييق مساحة عملها غير المشروط – وبالتالي استعادة قدرات الدولة، التي بدورها يجب أن تكون ذكية وقوية للاستفادة من هذه التحولات.
ويقدم التعاون الاقتصادي والسياسي والعلمي والتكنولوجي مع الصين فرصاً لبلدان جنوب العالم، ومن بينها بلداننا، للإفلات من تبعات الفوضى السائدة في اقتصادات ومجتمعات مراكز الرأسمالية والشروط الاقتصادية والسياسية القاسية والمعيقة التي تفرضها الإمبريالية الأميركية والعالمية، بما في ذلك تأجيج النزاعات و تفجير الحروب الإقليمية. وبالفعل، ففي منطقتنا سارت كل من المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية في هذا الاتجاه الصائب بتوقيع اتفاقيات تعاون استراتيجية طويلة الأمد بينها وجمهوربة الصين الشعبية. وكذلك تسعى كل من العراق والكويت للتعاون مع الصين لخطط استثمارية تنموية تكنولوجية استرايجية. وقد قطعت كل من الجزائر ومصر شوطا على هذا الطريق.
الوضع الخليجي:
في ذات السياق تتصاعد حالة التوتر في منطقة الخليج العربي التي تجعل منها واحدة من أسخن مناطق الشرق الأوسط، فللمستجدات فيها أهمية بالغة لكثير من التطورات الإقليمية المصاحبة في فلسطين وسوريا ولبنان وغيرها من بلدان المنطقة على حد السواء. وجود 800 مليار برميل من الاحتياطي النفطي في باطن الخليج العربي جعل بلدانها في صدارة اهتمام الدول الإمبريالية حيث تحظى برعاية خاصة، محمية بمظلتها السياسية ما دامت تقبل بدورها في التقسيم الدولي للعمل وبشروط الحماية في مقابل اعتماد الدولار كعملة وحيدة في سوق النفط (البترودولار) وكذلك السلع الأخرى والربط والارتباط بسعر صرف الدولار وأسعار الفائدة.
اثارت التطورات السياسية في المنطقة، وخصوصاً بعد أحداث الربيع العربي شكوك أنظمة الخليج في مصداقية الولايات المتحدة بالتزامات الحماية، خصوصاً مع تطور حرب عاصفة الصحراء، واستهداف الحوثيين العمق السعودي ومصافي تكرير النفط في خريص والبقيق، الذي تسبب في تراجع إنتاج النفط السعودي بمقدار 5 مليون ب/ي. اكتفت حينها الولايات المتحدة بالتنديد اللفظي وبعض المساعدات اللوجستية والاستخباراتية، صاحب هذه التطورات فشل العقوبات الاقتصادية الأمريكية غير المسبوقة على روسيا فشلاً ذريعاً، عزز من ثقة القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية العمل على فك الارتهان الكلي إلى الولايات المتحدة، واتخذت خطوات جريئة قادت إلى إعلانها في ذلك الوقت الدخول في مجموعة البريكس، ورفض زيادة سقف الإنتاج النفطي والتزمت بالسياسة المتبعة في أوبك+، رغم الطلب المباشر من الرئيس الامريكي في أعقاب الزيارة الرسمية حينها إلى السعودية، بل على العكس من ذلك استمرت في تخفيض الإنتاج وفقاً لما تقتضيه متطلبات استقرار سوق النفط ومصلحة الدول الأعضاء، كما أعلنت وقف العمل باتفاقية 1971 باعتماد الدولار عملة وحيدة في تجارة النفط الدولية. شكل هذا تحدٍ غير معلن للولايات المتحدة الأمريكية وتهديداً لعملة الدولار كأساس في المبادلات التجارية الدولية. ومثلت الخطوات التي اتخذتها السعودية سابقة وبريق أمل للخروج من فك التمساح الأمريكي، تلك المواقف الجريئة فتحت لدول المنطقة آفاقا جديدة، أصبحت بعدها أسواق الامارات العربية المتحدة ملاذاً آمنا لتدفق الأموال الروسية التي بلغت عشرات بلايين الدولارات، حتى باتت هذه الأموال الآن محركاً أساسياً في سوقي دبي وأبوظبي، مشكِّلة بهذا واحدة من أهم القنوات للاقتصاد الروسي للالتفاف على العقوبات الأمريكية، تأتي في المرتبة التالية بعد تجارة النفط والغاز والأسلحة والسوق الصينية والهندية. سعت الولايات المتحدة إلى استخدام وسائل الضغط المتعددة ضد المملكة العربية السعودية مثل زيادة التدفقات النفطية الأميركية إلى الأسواق العالمية، أو سن قانون “نوبك” بالإضافة إلى وسائل الضغط السياسية والدبلوماسية المباشرة وغير المباشرة، لم تؤدِّ تلك الخطوات إلى النتيجة المرجوة أمريكياً، فقد التزمت السعودية ودول الخليج بسياسة أوبك+، وذهبت السعودية إلى أبعد بتقديم طلب انضمام إلى مجموعة شنغهاي وبريكس. شكلت هذه الخطوات تطوراً لافتاً واستدارة نوعية لو تم المضي فيها لأصبح لها تأثير أدى بالفعل إلى تغيير محسوس في الموازين الدولية.
وبرغم سياسات التحول المعلنة لا يزال العالم يتوسع باضطراد في استخدام الوقود الأحفوري. وقد شهدت الولايات المتحدة العام الماضي أكبر عملية استخراج للوقود الأحفوري في تاريخها.
وكما أشرنا أعلاه تنشط السعودية إلى جانب مصر في استعادة دورهما الريادي في الفعل السياسي لتحديد اتجاه مسار المنطقة العربية والشرق الأوسط برفض الخطط الأمريكية الصهيونية لتهجير الفلسطنيين من وطنهم وتعزيز عملية التطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني في آن.
وبينما تنزع منطقة الخليج إلى الإفلات من الارتباط التبعي الذي يفرضه عالم القطب الواحد إلى البحث عن طريقة للتموضع في العملية العالمية الجارية لتشكيل العالم المتعدد الأقطاب، فإن الحاجة تكون ماسة إلى إطلاق طاقات شعوب المنطقة وإشراكها في صنع القرار السياسي ليخلق ذلك ضماناً لحماية وتطوير مكاسبها من جهة، وبناء جبهة داخلية متينة تعزز مكانة بلدانها في العلاقات الدولية.
في الشأن المحلي:
نحن نعيش في بلد صغير المساحة والسكان، لكنه يحتل مكانة هامة في إقليمنا وعالمنا المتغيرين بشدة. هذا الوضع يستدعي انتهاج سياسة عالية اليقظة لحماية المصالح الوطنية لبلدنا وشعبنا وتخدم شروط تقدمهما. وهذا ما تقتضيه مراجعة جوهر علاقة بلادنا بالمؤسسات الاقتصادية والمالية والسياسية والعسكرية التي وجدت لخدمة العالم القديم وتعيق انخراط بلادنا في العالم المتعدد الأقطاب. وفي المقدمة طبيعة العلاقة مع صندوق النقد والبنك الدوليين، التي تضغط باتجاه إضعاف أو حتى إلغاء أهم البرامج الاجتماعية لحماية الفقراء والكادحين خصوصاً. وتدفع ببلادنا للتوسع في الخصخصة، وصولاً إلى بيع ثرواتنا النفطية عن طريق المشاركة في الإنتاج بموجب اتفاقيات جديدة. وكذلك خصخصة مرافق الخدمات الحكومية. هذا يضعف كثيراً قدرات الدولة الاقتصادية من جهة، كما يضعف دورها للإرتفاع بمستوى معيشة المواطنين وجودتها. وهكذا تَراجَعَ دعم المحروقات والطاقة والتعليم، الصحة، المواد الغذائية، العلاوات، الضمان الاجتماعي، زيادة الرواتب ودعم المتقاعدين وغيرها من الدعوم التي توقفت كلياً أو تقلصت بنسب فارقة.
لم تتغير ميزانية تطوير التعليم منذ عام 2021 وبقت على القدر المخصص لها وقدره 9 ملايين دينار وكذلك ميزانية تطوير الصحة بقت في حدود 7 ملايين دينار حتى عام 2024.
وبينما شكل التوسع في التجنيس في السنوات الماضية عبئاً ضاغطاً على أنظمة التعليم والصحة والمرور وغيرها، فإن العبء الأكبر وقع على المشكلة الإسكانية المستعصية من الأساس. وعليه يرتفع باستمرار لجوء المواطنين إلى القروض العقارية التي ارتفعت بنسبة 8.8% بين عامي 2023 و2024، بالغة 2.9 مليار دينار، وهو ما يساوي نصف مجموع القروض الشخصية!.
وبدلاً من أن تتعاظم قدرات الدولة الاقتصادية لكي يتحسن أداؤها لوظائفها الاجتماعية، فقد أعاق التراجع عن التصنيع منذ منتصف السبعينات، الاستمرار في بناء اقتصاد منتج وأدى إلى المراوحة في أطر الاقتصاد الريعي المعتمد على عوائد النفط والغاز ومشتقاتهما. بلغت الإيرادات النفطية لعام 2024 أكثر من 2.1 مليار دينار، بينما بلغ إجمالي الإيرادات غير النفطية أكثر من 1.3 مليار دينار، في حين أن إجمالي المصروفات العامة في ذات العام بلغت أكثر من 3.6 مليار دينار، أي بعجز بلغ 161.4 مليون دينار منها فوائد الدين الحكومي التي بلغت 788 مليون دينار.
أسهمت هذه السياسة في خلو نهج الدولة من خطة استراتيجية واضحة يتم فيها توظيف تلك العوائد في خطط ومشاريع تنموية تشمل كافة القطاعات الاقتصادية، هدفها تنويع مصادر الدخل وتطوير الاقتصاد إلى اقتصاد إنتاجي والعمل على تأهيل الكوادر وصقل المهارات وتوجيه التعليم لخلق بيئة محفزة على الإبداع وقادرة على المنافسة، بدلاً من الاستهلاك وإهدار عوائد النفط والغاز في أوجهٍ والتزاماتٍ لم تكن مملكة البحرين بحاجة إليها.
كان للمنبر التقدمي ومنذ تأسيسه رؤية نقدية لهذه السياسة من حيث بنية الاقتصاد الوطني وتوجهات الموازنة العامة، وقد عكس تلك المواقف في الأنشطة التي يقيمها من ندوات وورش عمل وما صدر عنها من توصيات، إضافة إلى مقالات في نشرة “تقدم”، تصدت فيها إلى أسباب تلك الظواهر مثل غياب خطة التنمية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة وضعف كفاءة الأجهزة التنفيذية، تخلف نظم وأساليب الإدارة، المحسوبية والفساد، إهمال تنفيذ البرامج ومتابعة نتائجها، وهو واقع نتلمسه الآن من فشل واضح في كل من إدارة التأمينات الاجتماعية وفي ادارة الناقلة الوطنية شركة طيرن الخليج وغيرها من القطاعات الخدمية، كما حذر التقدمي من خشيته أن يؤدي فشل النهج الحكومي في إدارة اقتصاد البلد إلى التوسع في سياسة الرسوم والضرائب غير العادلة على المواطنين بدلاً من الشركات الكبيرة، وقف العلاوات والزيادات في الرواتب، تدني مستوى الدخل للمواطن وتراجع القدرة الشرائية، ارتفاع مستوى البطالة، زيادة مستويات الفقر وفي الجانب الآخر تكدس رؤوس الأموال في يد قلة من الأثرياء، وأخيراً بيع ما تبقى من القطاع العام وأصول الدولة والثروات الطبيعية للبلد.
تعتبر نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في البحرين من بين أعلى المستويات في العالم. فبعثة صندوق النقد الدولي التي زارت مملكة البحرين العام الماضي 2024 أشارت في تقريرها إلى ارتفاع إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 12 نقطة مئوية، ليبلغ 123%. ويثير هذا شديد القلق إزاء خدمة الدين العام إرتباطاً بمعدلات الفوائد المرتفعة. وبما أن 60% من الدين الحكومي محلي، فلعل هذا يكشف سر تهافت المصارف لحث المواطنين على المزيد من الإيداع، تحت مغريات سحوبات على جوائز سخية. وبينما تُحجب هذه الإيداعات عن النشاط الاقتصادي تستخدمها المصارف لشراء سندات الدولة ذات الفوائد المسيلة للعاب. هذا ما يسمى بـ”إضراب رأس المال” (عندما تحجب المؤسسات الاقتصادية الكبرى الأموال وتُجوِّع الاقتصاد). وللمفارقة، نجد أنفسنا أمام تناقض صارخ بين ما تعلنه الحكومة من توجه لخفض الدين العام وبين رفع سقف الدين العام باستمرار (هذا العام إلى 18 مليار دينار).
كما أشار تقرير الصندوق إلى إن الوضع المالي شهد تراجعاً؛ حيث انخفض الرصيد المالي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 3.3 نقطة مئوية، ليصل إلى – 8.5%.
ويثير التساؤل أيضاً وضع احتياطيات الذهب لدى المصرف المركزي، والمتوقفة عند حدود 4.67 طن ذهب لسنوات متتالية. هذا في الوقت الذي تعمد كثير من المصارف المركزية لزيادة احتياطياتها الذهبية بسبب المخاوف من الدولار الأمريكي. فليس الذهب هو الملاذ الآمن فقط، بل وأن أسعاره تزداد بوتائر متسارعة في السنوات الأخيرة، وفي حال نشوء توترات متوقعة بين الولايات المتحدة والصين فإن أسعار الذهب مرشحة لطفرات إضافية.
إذا ما ظلت الأمور سائرة على هذا النحو فستنتهي مآلات هذا النهج إلى إفلاس قطاع الدولة كلياً وتفكيكه وبيعه إلى مستثمرين، لتصبح بعدها مملكة البحرين رهينة لمصالح الشركات وأصحاب رؤوس الأموال، الأجنبية خصوصاً، لتكون الأخيرة صاحبة القرار في إدارة موارد الدولة وفي تقرير مصيرها الاقتصادي والاجتماعي. هذا المحذور وارد جداً بعد مجيئ الإدارة الأمريكية الجديدة التي يقودها رأس المال الاحتكاري، الذي يرى في بلدان العالم مشاريع افتصادية عقارية وتكنولوجية وثروات طبيعية، وليس شعوباً.
اختلال توازن البناء الاقتصادي، الخصخصة والدين العام – هذا هو الثالوث القاتل لثالوث آخر، هو الاقتصاد الوطني والمجتمع والدولة. ذلك ما يفتح قنوات الاستزاف واسعة لإعادة ضخ كل الموارد إلى الخارج. ثمنها: رفع الحماية عن القطاعات الحيوية. هذه السياسة أفضت إلى إرهاق جيوب المواطنين وزيادة عبء المصاريف والالتزامات، الزيادة الملحوظة للتضخم وتراجع القوة الشرائية عند المواطنين، تآكل ملحوظ في الطبقة الوسطى، زيادة معدل نسب البطالة، تفشي المحسوبية والفساد، الإفلات من العقوبة لاسيما تلك المرتبطة بالمال العام. لقد تفلتت الليبرالية الجديدة لدينا حتى من وصايا بعض أيدولوجيي الرأسمالية، القائلة أنه “يجب الاهتمام بالفقراء قبل أن يهتم الفقراء بالسياسة”.
وبشأن خلل الهيكل الاقتصادي فكثيراً ما أشرنا إلى مثلب تسيُّد قطاع المال على بقية القطاعات إذ تبلغ مساهمته قرابة 17% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يبين الطابع غير الإنتاجي للاقتصاد. الآن، مع تطورات الاقتصاد العالمي تصبح مراجعة هذه المسألة أكثر جدية. إن الدور الرئيسي في إنشاء المناطق الكبرى، كما هو الحال في العالم ككل، يلعبه رأس المال الرقمي بالتحالف مع رأس المال الصناعي، مما يؤدي إلى قمع وتقويض رأس المال المضاربي المالي. وفي اقتصاد ما بعد المعلومات الناشئ بالفعل “تفقد الأموال معناها” تدريجيا، مما يفسح المجال للبنى التحتية التكنولوجية، وتتلاشى السوق التقليدية إلى الخلف، وبالتالي، هناك تغيير كبير في النظام المالي. ومن هنا وجدنا موقف الرئيس ترامب السلبي جداً في علاقته المعقدة بالمصارف بدفع من أباطرة التكنولوجيا، الساعين لتعطيل العمل المصرفي. وهناك بالفعل إشارات إلى أن القطاع المصرفي لن يحصل على ما يريده. فقد قال سكوت بيسنت، مرشح ترامب لمنصب وزير الخزانة، في جلسة تأكيد تعيينه هذا الشهر إن أكبر خمسة بنوك لديها حصة سوقية أكبر مما ينبغي.
ترى، ألا تستدعي هذه المؤشرات وقفة جدية أمام واقع اقتصادنا الوطني، الوقفة التي نضجت الحاجة إليها منذ زمن، والآن أينعت أكثر؟!!
موارد بلادنا ليست شحيحة قياساً بعدد سكانها. وتستطيع الدولة القيام بوظائفها الاجتماعية بالمستوى المطلوب والتعامل مع رأس المال البشري على أنه الأهم، والمواطن كوسيلة وهدف للتنمية في آن، وأعطت له الأولوية في الاستفادة من خيرات الوطن على أساس العدالة الاجتماعية.
وللأسف، بعكس العدالة الاجتماعية، السياسة الضريبية لدينا مصممة لامتصاص المال من أسفل إلى الأعلى. لدينا ضرائب على الاستهلاك وليس على الإنتاج. نحن بحاجة إلى عكس هذه السياسة، بحيث تُصمم لامتصاص فائض المال من أعلى وتدفقه إلى أسفل عن طريق سن الضرائب على الشركات الكبرى والدخول العالية جداً والأراضي غير المستغلة اقتصادياً والثروات خارج النشاط الاقتصادي وعلى التحويلات المالية للخارج. كما أن اعتماد الشركات على العمالة الأجنبية الرخيصة هو الآخر نوع من امتصاص المستثمر فارق الأجور بين المواطن والأجنبي على حساب المواطن بالطبع. وللفساد دوره أيضاً.
خاض المنبر التقدمي نضالاً دؤوباً ضد النهج النيوليبرالي، وعكست مواقفه تلك البيانات التي أصدرها منفرداً أو في إطار التنسيقية مع الجمعيات السياسية أو بمعية عدد من الجمعيات، كما كرس في نشرته على مدار السنوات المقالات النقدية من الأقلام المتخصصة في هذا الاتجاه، هذا بالإضافة إلى الأنشطة المتعددة ومن بينها الندوات، ورش العمل، المنتديات الفكرية، المؤتمرات الدولية. كما أن للعديد من مواقف كتلة تقدم البرلمانية دور بارز في تلك المناهضة المشرفة ضد هذا النهج وآثاره، في طليعة تلك المواقف الوقوف ضد بيع حصة من شركة نفط البحرين إلى شركة بلاك روك الأمريكية، وتوضيح مخاطر المضي في تلك السياسة هذا بالإضافة إلى مواقفها من مجمل قضايا العمل والعمال والسياسات الاقتصادية الاجتماعية.
إن علينا أن ندرك حقيقة أنْ لا مواقف الجمعيات السياسية ولا “كتلة تقدم” والنواب الديمقراطيين وحدها تكفي لعكس مسار النهج القائم، ما لم يردف ذلك ضغط مجتمعي يتمثل في حركة نقابية عمالية موحدة ونشطة، وحركة لأصحاب المهن والحرف.. حركة مجتمع مدني حية، ودور وطني هام للمثقفين من حقوقيين واقتصاديين وكتاب وأدباء وفنانين ورجال دين متنورين وغيرهم.
وكلمة حول المؤشرات.. يجب ألا تبهرنا مؤشرات مؤسسات التصنيف الدولية بشأن أوضاعنا، فهي تبعدنا عن الواقع لأنها تخدم حاجات واضعيها. يجب أن نقيس أوضاعنا كما نعيشها نحن، لأن “أهل مكة أدرى بشعابها”. وحتى المواطن العادي عندما يشاهد بين يوم وآخر زهو صحافتنا المحلية بهذا المديح، يشعر أن المسافة لا تزال بعيدة جداً بين الكأس والشفتين.
***
سوف يستمر التقدمي كما كان دوماً ملتزماً بخطه النضالي محافظاً على الثوابت الأساسية في نهجه المادي الجدلي محافظاً على الهوية الوطنية ضد أية محاصصة طائفية أو مذهبية أو مناطقية، متصدياً للخطابات الطائفية، وسيتابع عمله انطلاقاً من هذه الثوابت مع مختلف التكوينات السياسية والجمعيات الأهلية، وأية مكونات اجتماعية أخرى منطلقاً في رؤيته من التحليل الماركسي، مسلطاً الضوء على طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة ونقدها خاصة فيما يتعلق بالوضع الطبقي.
يؤمن المنبر التقدمي أن الحاجة نضجت منذ زمن لإحداث استدارة نوعية في النهج السياسي في إدارة الدولة ولفظ التفرد والاقصاء المعمول به حالياً. البحرين بحاجة إلى إعادة نبض الحياة للشارع السياسي، المشاركة والجلوس مع مكونات المجتمع هي بداية الطريق نحو مسار يعيد الثقة ومد الجسور مع السلطة السياسية. الاعتلالات التي باتت تعيق العمل السياسي توسعت إلى الدرجة التي أصبح فيها أي نشاط سياسي يصنف بالعداء من جانب السلطة، هذا التعاطي أخرج العملية السياسية برمتها من مسارها الحقيقي. أصبحت الحاجة ملحة إلى المراجعة النقدية لأداء المؤسسات الرسمية وآلية تعاطيها مع المكونات والجمعيات السياسية ونشطاء العمل السياسي، ولكي يستقر الوضع العام في العمل السياسي لابد من توافق بين تلك الأطراف على الأساس القانوني، وهو شرط جوهري لديمومة البناء والتعاون فيما بين أطراف العمل السياسي أخذاً في الحسبان الانتفاع من خلاصة التجربة التي مرت بها البحرين منذ فجر الإصلاح في مطلع الألفية حتى اليوم، وتقليمها من الاعتلالات والمساوئ التي أغرقتها في وحل التراجع، التفرد، التشدد، المحسوبية والفساد. المحاصصة الطائفية من أهم أسباب تلك الاعتلالات إذ لابد من تطهير مسار البلاد السياسي منها، وهو ما يعني وضع أسس ومعايير تبنى على أسس مختلفة عن السابق، بما فيها منح التجربة الديمقراطية حقها في التوسع وعدم اقتصارها على مقاسات السلطة المتنفذة. لن يتحقق هذا ما لم توقف السلطة السياسية الممارسات المخلة بحرية الرأي والتعبير، ومن بينها ملاحقة النشطاء والجمعيات السياسية، العدول عن تفريغ العمل الاجتماعي من مضامينه الإنسانية أو محاولة فك ارتباطه الواقعي بالعمل السياسي، وقف المحاكمات على الهوية السياسية والرأي المختلف، تعديل المواد القانونية وتفسيرها كي لا تصبح حمالة أوجه يمكن توظيفها بانتقاء ما يحقق للمتنفذين التسيد على الرأي والنقد والمواقف السياسية.
التجربة النيابية بدأت منقوصة وأثارت منذ انطلاقتها الفعلية شقاقاً بين الشارع والسلطة التنفيذية. الآن وبعد مرور أكثر من عقدين على انطلاق المشروع الإصلاحي تعثر مسار هذه التجربة. انحدرت إلى مستويات أفرغت منها مضامين التشريع النيابي، تقلصت خلالها الصلاحيات حتى بات المجلس أقرب الى جهاز مراقبة يتبع السلطة التنفيذية عاجزاً عن التشريع والمحاسبة، ورغم الجهود المميزة التي يبذلها بعض النواب ومن بينهم كتلة تقدم التي تمثل المعارضة الوحيدة داخل المجلس إلا أنها تبقى غير قادرة على تحقيق اختراق حقيقي، بسبب التحديات التي تعيق عملها النيابي وعمل المجلس في العموم، ومن أهمها المحاصصة الطائفية، توزيع الدوائر الانتخابية، تسيد الفساد في عمل المجلس بشراء بعض المواقف مقابل تحقيق غايات شخصية أو مناطقية، التشريعات والنظم واللوائح التي تحد من عمل النائب داخل المجلس، العزل السياسي وهي سياسة ممنهجة يتم بموجبها انتقاء وتمرير الشخصيات إلى المجلس النيابي وفق المصلحة التي تراها السلطة السياسية، دور الإعلام ومثقفي السلطة في تسفيه المجلس النيابي والدعوة المستمرة للتخلي عنه.
بات ملحاً تقييم التجربة النيابية ووضع التصورات حول مستقبل المجلس النيابي وآلية عمله، هي خطوة لابد منها إذا ما كانت هناك رغبة جادة في دفع الحياة السياسية نحو مسار توافقي.
إن واقع الخلل السياسي واستمرار القوى المتنفذة في تعميق تلك الأزمة بحكم ما تحققه لها من مكاسب، يحتم على قوى اليسار أن تسعى بكل طاقاتها إلى بناء تيار ديمقراطي قادر على إحداث أثر في القوى الاجتماعية في مواجهة الاستبداد السياسي من جانب، ومن الجانب الآخر مواجهة الاستبداد الاجتماعي من قوى التخلف.
هذه المهمة الملحة منوطة بقوى اليسار والقوى الديمقراطية التي لها رؤية ذات عمق استراتيجي للخروج من أزمة النظام السياسي، وهو ما يستوجب في الفترة القادمة أن تصبح المعارضة السياسية أكثر واقعية، يمكنها استيعاب التنوع والاختلاف وطي الموروث من اختلاف وتباين المواقف في حدود يبقي لكل مكون استقلاليته وهويته السياسية والفكرية، هذا يشمل التقدمي كتنظيم يساري تمتد جذوره إلى سبعة عقود من السنوات، مستقياً فكره ونهجه من نظرية الإشتراكية العلمية.
في الشأن الداخلي والعمل التنظيمي:
ان المنبر التقدمي وهو يتعاطى مع واقع العمل السياسي، يستشعر التحديات التي تواجه نشاطه ويتدارس السبل الأكثر قرباً لتخطيها، ويحسب في استراتيجيته مهام جوهرية نحو تحقيق هذه الغاية وتأتي في طليعتها، ترجمة مضامين برنامج التقدمي في مسيرة نشاطه اليومي ورفدها بالعلاقة مع الجماهير في الأنشطة والفعاليات، الوصول إلى كافة فئات المجتمع وبالأخص من الطبقة الكادحة والفئات المسحوقة، تنوع الأنشطة لتشمل الحاجة الفعلية لمختلف المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وطرح الحلول والبدائل الواقعية التي تناسب المرحلة، التأهيل المعرفي والفكري لكوادر التقدمي لتمكنه من غور سبر التحديات الفكرية وإدراكها وفهم علمي ماركسي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المحلية والدولية، العمل الدؤوب على جسم التنظيم لتمتينه وتوسيع صفوفه، وبث الروح الجماعية والتعاون والعمل الخلاق، الاهتمام الخاص بالطلبة والشباب بتمكينهم من تولي المهمات والانخراط في قطاعات التقدمي ولجانه، تعميق العلاقة بالنقابات وتمثيلات الطبقة العاملة وفي العموم التعاون معها في كافة الأنشطة ووضع الحلول ومناقشة التحديات التي تواجهها وإبداء المشورة الفكرية والقانونية، فضح ممارسات السلطة الانتقائية لمواد الدستور وبالأخص المواد ذات الصلة بالحريات العامة وحقوق الإنسان.